فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ}
الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف عليه السلام، فوصلوا مصر، فدخلوا على يوسف،: {فلما دخلوا عليه} الخ...
وقد تقدم آنفًا وجه دعائهم يوسف عليه السلام بوصف العزيز.
وأرادوا بمسّ الضر إصَابته.
وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر} في سورة الأنعام (17).
والبضاعة تقدمت آنفًا.
والمزجاة: القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يُزجيها، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه.
والمراد بها مال قليل للامتيار، ولذلك فرع عليه {فأوف لنا الكيل}.
وطلبوا التصدّق منه تعريضًا بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكًا له كما تقدم.
وجملة: {إن الله يجزي المتصدّقين} تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}
الاستفهام مستعمل في التوبيخ.
و{هل} مفيدة للتحْقيق لأنها بمعنى: {قد} في الاستفهام.
فهو توبيخ على ما يعلمونه محققًا من أفعالهم مع يوسف عليه السلام وأخيه، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ، وهي بالنسبة ليوسف عليه السلام واضحة، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف عليه السلام من الإهانة التي تنافيها الأخوة، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله: {إذ أنتم جاهلون}.
وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد.
وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيئًا أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء (بنيامين) حين أُخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح.
وإنما كاشفهم بحاله الآن لأن الاطلاع على حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته، وذلك كان متوقفًا على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذٍ.
وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} [يوسف: 79] فقد صار يوسف عليه السلام جِدّ مكين عند فرعون.
وفي الإصحاح (45) من سفر التكوين أن يوسف عليه السلام قال لإخوته حينئذٍ وهو أي الله قد جعلني أبًا لفرعون وسيدًا لكل بيته ومتسلطًا على كل أرض مصر.
فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف عليه السلام من السجن وجعله عزيز مصر قد توفّي وخلفه ابن له فجبه يوسفُ عليه السلام وصار للملك الشاب بمنزلة الأب، وصار متصرّفًا بما يريد، فرأى الحال مساعدًا لجلب عشيرته إلى أرض مصر.
ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف عليه السلام لأن المملكة أيامئذٍ كانت منقسمة إلى مملكتين: إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يُقسهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة، وبعض الثامنة عشرة.
والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس، ويقال لهم: العمالقة أو الرعاة وهم عَرب.
ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة من سنة (2214) قبل المسيح إلى سنة (1703) قبل المسيح.
وقولهم: {أإنك لأنت يوسف} يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قَول أبيهم لهم: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريدًا نفسه.
وتأكيد الجملة بـ: {إنّ} ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف عليه السلام.
وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكّدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلِمهم به.
وقرأ ابن كثير: {إنك} بغير استفهام على الخبرية، والمراد لازم فائدة الخبر، أي عرفناك، ألا ترى أن جوابه بـ: {أنَا يوسف} مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك.
وقوله: {وهذا أخي} خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة، فجملة: {قد من الله علينا} بيان للمقصود من جملة: {وهذا أخي}.
وجملة: {إنه من يتق ويصبر} تعليل لجملة: {منَّ الله علينا}.
فيوسف عليه السلام اتّقى الله وصبر وبنيامين صَبر ولم يعْص الله فكان تقيًا.
أراد يوسف عليه السلام تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضًا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته.
وذكر المحسنين وضعٌ للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهُم.
فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل، ويدخل في عمومه هو وأخوه.
ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأتقاكم لله وأعلمكم به». والإيثار: التفضيل بالعطاء. وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبتَه، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف عليه السلام يعلمه.
والمراد: الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم.
واعترفوا بذنبهم إذ قالوا: {وإنّ كنا لخاطئين}.
والخاطئ: فاعل الخطيئة، أي الجريمة، فنفعت فيهم الموعظة.
ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال: {لا تثريب عليكم}.
والتثريب: التوبيخ والتقريع.
والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله: {عليكم}، لأن مثل هذا القول مِمّا يجري مجرى المثل فيُبنى على الاختصار فيكتفي بـ: {لا تثريب} مثل قولهم: لا بأس، وقوله تعالى: {لا وزر} [القيامة: 11].
وزيادة {عليكم} للتأكيد مثل زيادة: {لَك} بعد (سقيًا ورعيًا)، فلا يكون قوله: {اليوم} من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل: {يغفر الله لكم}.
وأعقب ذلك بأن أعلمهُم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم.
وأطلق: {اليوم} على الزمن، وقد مضى عند قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} في أول سورة العقود (3). اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} ولم يذكر الحق سبحانه اسم مَنْ دخلوا عليه، لأنه بطل القصة، والضمير في {عليه} لابد أن يعود إلى معلوم، ونادوه بالتفخيم قائلين: {يا أيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} [يوسف: 88].
أي: أن الجوع صَيَّرنا إلى هُزَال، وبدأوا بترقيق قلب مَنْ يسمعهم؛ بعد تفخيمهم له؛ فهو الأعلى وهُم الأدنى.
ويستمر قولهم: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88].
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه، وقد اختاروا مَدْخل الترقيق والتفخيم كَلَوْن من المَكْر، فالتفخيم بندائه بلقب العزيز؛ أي: المالك المُتمكِّن؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه منه هو أمر في متناول سلطته.
والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هُزال، وأعلنوا قدومهم ومعهم بضاعة مزجاة، أي: بضاعة تُستخدم كأثمان لِمَا سوف يأخذونه من سِلَع.
وكلمة: {مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88].
أي: مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع.
والحق سبحانه يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور: 43].
وكلمة {يزجي} بمعنى: يدفع.
إذن: فما معنى قول الحق سبحانه: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88].
ولكي تعرف المعنى بإحساسك؛ جَرِّب هذا الأمر في نفسك، وراقب كيف تدفع ثمن أيَّ شيء تشتريه؛ فإنْ كان معك نقود قديمة ونقود جديدة؛ ستجد أنك تدفع قيمة ما تشتريه من النقود القديمة؛ وسوف تجد نفسك مرتاحًا لاحتفاظك بالنقود الجديدة لنفسك.
وقد يقول لك مَنْ تشتري منه: خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها لي، واستبدلها لي بورقة جديدة.
فما دامت النقود سوف تُدفع؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة؛ وتفعل ذلك وأنت مُرتاح، وبذلك يمكننا أن نفهم معنى: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88]. على أنها بِضَاعة رديئة.
فكأن الضُّرَّ الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الأثمان للمَيْرة التي سوف يأخذونها، مثل الأثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88].
أي: أنهم يرجونه أن يُوفِّي لهم الكيل ولا ينقصه؛ إنْ كان ما جاءوا به من أثمان لا يُوفى ما تساويه المَيْرة، وطالبوه أن يعتبر تلك التَّوْفِية في الكَيْل صدقة.
وبذلك رَدُّوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان، وفوق قدرة البشر على الدَّفْع؛ لأن الصدقة إنما يُثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.
ولقائل أن يسأل: أليسوا أبناء نبوة، ولا تجوز عليهم الصدقة؟
نقول: إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختصَّ به الحق سبحانه آل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أمر خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس». وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها؛ نظر إليهم يوسف عليه السلام وتبسم، ولما تبسَّم ظهرت ثناياه، وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع مَنْ رأوه. وجاء الحق سبحانه بما قاله: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ...}.
ومجيء هذا القول في صيغة السؤال؛ يدفعهم إلى التأمل والتدقيق؛ لمعرفة شخصية المُتحدِّث.
ثم يأتي التلطُّف الجميل منه حين يضيف: {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89].
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العُذْر بالجهل، ولم يتحدث إليهم بعِزَّة الكبرياء، وغرور المكانة التي وصل إليها، وهدفه أن يخفف عَنهم صَدْمة المفاجأة، فذكر لهم أنهم فعلوا ذلك أيام جهلهم.
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقِّك قديمًا بسلوك غير مقبول، ولكن الأيام أزالتْ مرارتك من سلوكه، فتُذكِّره بما فعله قديمًا وأنت تقول له: إن فعلك هذا قد صدر منك أيام طَيْشك، لكنك الآن قد وصلت إلى درجة التعقُّل وفَهْم الأمور.
وقول يوسف عليه السلام لهم هذا الأمر بهذه الصيغة من التلطُّف، إنما يعبر أيضًا عن تأثُّره بشكواهم، ثم تبسُّمه لهم، وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكُّره، ودار بينهم وبينه الحوار الذي جاء في الآية التالية: {قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ...}.
وهكذا انتبهوا إلى شخصية يوسف وتعرَّفوا عليه، وقالوا: {أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ...} [يوسف: 90]. وجاء قولهم بأسلوب الاستفهام التقريريّ الذي أكّدوه بإنْ واللام، وقد قالوا ذلك بلهجة مُمتلئة بالفرح والتعجُّب بنجاحهم في التحسُّس الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم: {أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} [يوسف: 90]. وبطبيعة الحال هم يعرفون أخَ يوسف بنيامين، وجاء ذكْر يوسف له هنا دليلًا على أن بنيامين قد دخل معه في النعمة، وأن الحق سبحانه قد أعزَّ الاثنين. ويجيء شُكْر يوسف لله على نعمته في قوله: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 90].
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له، وتنفع أيَّ سامع لها وكل مَنْ يتلوها، وقد قالها يوسف عليه السلام بعد بيِّنة من واقع أحداث مرَّتْ به بَدْءً من الرُّؤيا إلى هذا الموقف. فهو كلام عليه دليل من واقع مُعَاش، فقد مَنَّ الله على يوسف وأخيه مما ابْتُلِيا به واجتمعا من بعد الفُرْقة، وعَلَّل يوسف ذلك بالقول: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} [يوسف: 90].
أي: مَنْ يجعل بينه وبين معصية الله وقاية، ويخشى صفات الجلال، ويتبع منهجه سبحانه، ويصبر على ما أصابه، ولا تفتُر هِمَّته عن عبادة الله طاعة، ويتجنب كل المعاصي مهما زُيِّنَتْ له. فسبحانه وتعالى لا يُضيع أجر المحسنين الذين يتقونه، وصاروا بتقواهم مُستحقِّين لرحمته، وإحسانه في الدنيا والآخرة.
ويأتي قول الحق سبحانه بعد ذلك ليحمل لنا ما قاله أخوة يوسف في هذا الموقف: {قَالُواْ تالله...}. و: {تالله} قَسَم بالله. و: {آثَرَكَ الله عَلَيْنَا..} [يوسف: 91].
أي: خصَّك بشيء فوق ما خَصَّ به الآخرين، وهو لم يُؤثِرْك بظلم لغيرك، ولكنك كنت تستحق ما آثرك به من المُلْك وعلو الشَأن والمكانة.
وهكذا صدَّق إخوة يوسف على ما قاله يوسف، واعترفوا بخطيئتهم، حين حاولوا أن يكونوا مُقرَّبين مثله عند أبيهم، ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مُقربًا مُقدَّمًا عند ربِّ أبينا وربِّ العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا كنا خاطئين، ولابد أن ننتبه إلى الفَرْق بين {خاطئين} ومخطئين.
والعزيز قد قال لزوجته: {واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29].
ولم يَقُلْ لها كنت من المخطئين فالمادة واحدة هي: الخاء والطاء والهمزة، ولكن المعنى يختلف، فالخاطئ هو مَنْ يعلم منطقة الصواب ويتعدَّاها، أما المُّخْطئ فهو مَنْ لم يذهب إلى الصواب؛ لأنه لا يعرف مكانه أو طريقه إليه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام لأخوته بعد أن أقرُّوا بالخطأ: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ...}.
والتثريب هو اللوم العنيف، وهو مأخوذ من الثَّرْب؛ فحين يذبحون ذبيحة، ويُخرِجون أمعاءها يجدون حول الأمعاء دُهْنًا كثيفًا؛ هذا الدُّهْن يُسمَّى ثَرْب.
أما إن كانت هزيلة، ولم تتغذَّ جيدًا، فأمعاؤها تخرج وقد ذاب من عليه هذا الثَّرْب.
والتثريب يعني: أن اللوم العنيف قد أذابَ الشحم من لحمه، وجعل دمه ينزّ، ويكاد أن يصل بالإنسان إلى أن ينزل به ويسلّه.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا زنت أَمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها الحدّ، ولا يُثرِّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يُثرِّب عليها، ثم إنْ زنت الثالثة فتبيّن زِنَاها فَليبِعْها، ولو بحبل من شعر».
أي: لا يقولن لها: يا مَنْ فعلت كذا وكذا، بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله الله لمثل هذه الجريمة؛ فإن لم ترتدع عن الفعل فَلْيبِعْها، وهكذا نفهم أن التثريب أو اللوم العنيف قد يُولِّد العِناد.
وقال يوسف عليه السلام: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92].
ولقائل أن يتساءل: ولماذا قال يوسف ذلك؛ وقد يكونون قد استغفروا الله من قبل؟
ونقول: إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته ولتصفية النفوس مما شابها بهذا اللقاء.
وقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92]. هو فَهْمٌ لحقيقة أن أيَّ رحمة في العالم، أو من أي أحد إنما هي مُستمدَّة من رحمته سبحانه. وقد قال يوسف ذلك وهو واثق من إجابة دعوته، لأنه قد غفر لهم خطأهم القديم وعَفَا عنهم؛ والله أَوْلَى منه بالعفو عنهم. اهـ.